الذكرى ال68 لاندلاع الثورة: أول نوفمبر… شعلة لا تنطفئ
يحتفي الجزائريون يوم الثلاثاء المقبل, بالذكرى ال68 لاندلاع ثورة التحرير الوطني, في جزائر جديدة مشيدة الأركان, استلهمت من ماضيها المجيد مبادئ أسست على ضوئها دولة سيدة, بمؤسسات قوية واقتصاد واعد ودبلوماسية مؤثرة, وبجبهة داخلية محصنة وموحدة ومجندة لتحقيق الريادة في كل المجالات.
إن هذه الجزائر الجديدة التي كرست في قانونها الأعلى بيان أول نوفمبر 1954 كمرجعية أساسية لا يمكن الانحراف عنها وفاء لرسالة الشهداء, جعلت من تاريخ اندلاع الثورة المظفرة مناسبة “أرفع من أن ينحصر الاحتفاء بها في مظاهر الرتابة المناسباتية الباهتة” لأن نوفمبر هو “المعين الذي لا ينضب وذخر الأمة ومناط فخر الشعب وعزته” –مثلما ذكره رئيس الجمهورية, السيد عبد المجيد تبون بمناسبة إحياء هذه الذكرى العام الماضي–, مؤكدا أن تضحيات الشهداء والمجاهدين ومعاناة الشعب تحت هيمنة الاستعمار الغاشم, ينبغي أن تكون مصدر إلهام للأمة ولطاقاتها الشابة.
وانطلاقا من هذه الرمزية الخالدة, تزامنت أهم المواعيد الفاصلة في إطار بناء أسس الجزائر الجديدة, مع شهر الثورة, بدءا بالاستفتاء على الدستور مطلع نوفمبر 2020 الذي جرت حملته الانتخابية بشعار “نوفمبر 1954: التحرير, نوفمبر 2020: التغيير”, وسمح بالدخول في عهد ديمقراطي جديد وإرساء أسس دولة حديثة في خدمة المواطن وبإعادة الثقة بين الشعب ومؤسساته.
واستكمل مسعى تجديد مؤسسات الدولة بانتخاب أعضاء المجالس الشعبية البلدية والولائية شهر نوفمبر 2021, بعد انتخاب ممثلي الشعب بالبرلمان, كحلقة أخرى في سلسلة الإصلاحات المؤسساتية الشاملة النابعة من التزامات الرئيس تبون أمام الشعب, والتي كان عددها 54 التزاما, تيمنا بثورة الأبطال الذين خطوا في بيان أول نوفمبر 1954, أن الهدف الأسمى من عملهم التحرري هو “الاستقلال الوطني بواسطة إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية واحترام جميع الحريات الأساسية”, مع الإشادة ب”السند الدبلوماسي الذي تجده القضية الجزائرية خاصة من طرف إخواننا العرب والمسلمين”.
وها هي الجزائر تستعد في الفاتح نوفمبر 2022, لأن تكون عاصمة للعرب باحتضانها لأشغال القمة العربية المقبلة, وتسعى إلى لم شملهم بعد نجاحها في لم شمل مختلف القوى الفلسطينية, وذلك انطلاقا من رمزية هذا التاريخ الذي يكرس التفاف الدول والشعوب العربية وتضامنها مع الثورة الجزائرية المجيدة, ويشكل فرصة للاحتفال مع الشعب الجزائري بأمجاد هذه الأمة والاستلهام من همتها في بلورة رؤية مستقبلية لتحقيق نهضة عربية شاملة.
وستحتفل الجزائر بهذا اليوم الأغر, من خلال إعداد برنامج وطني ثري على المستوى الوطني تشارك فيه جميع القطاعات الوزارية والسلطات المحلية والمجتمع المدني بكل مكوناته, ترسيخا لمبادئ الوحدة والتلاحم التي استلهمها الشعب الجزائري من مبادئ أول نوفمبر, وذلك بتوجيهات من رئيس الجمهورية الذي أكد لدى ترؤسه لمجلس الوزراء الأخير, أن الهدف من إحياء هذه الذكرى الغالية هو “غرس أبعاد التضحيات في النشء”, وأمر الحكومة بإعطاء هذه الاحتفالات “الأهمية الخاصة لتكون في مستوى ما تعيشه الجزائر من ديناميكية على جميع الأصعدة”.
وتندرج هذه الديناميكية في إطار ما وصفته مجلة الجيش في افتتاحيتها لشهر أكتوبر الجاري, ب”النهج القويم” الذي تسير وفقه جزائر اليوم, وأساسه الإصلاحات العميقة التي باشرها رئيس الجمهورية, ببناء دولة المؤسسات وبعث ديناميكية اقتصادية حقيقية والعودة القوية للدبلوماسية الجزائرية, وكذا التفاف الشعب حول قيادته العليا وجيشه الضامن للأمن والاستقرار, وهو ما من شأنه أن يمكن الجزائر من تجاوز كل العقبات ورفع مختلف التحديات.
وما أشبه تحديات اليوم بتحديات الأمس, فقد أكد بيان أول نوفمبر وهو الوثيقة المرجع والمنهج التي صادق عليها القادة التاريخيون الستة يوم 23 أكتوبر 1954 بمنطقة الرايس حميدو بالجزائر العاصمة, على ضرورة “التطهير السياسي .. والقضاء على جميع مخلفات الفساد التي كانت عاملا هاما في تخلفنا الحالي, إلى جانب تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري”.
وأوضح البيان أن الحركة التحررية التي تبناها الشعب الجزائري, قد وضعت “المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات التافهة والمغلوطة لقضية الأشخاص والسمعة”, وشدد على أن “الكفاح سيكون طويلا ولكن النصر محقق”.
ويعد بيان أول نوفمبر رغم قصره, أرضية صالحة لبناء الدولة الجزائرية الحديثة, ولم يكن بيانا عسكري النزعة داعيا للعنف بقدر ما كان برنامج مجتمع ووثيقة تأسيسية للجزائر ككيان حضاري وكشعب عريق, بحيث لم يكن إعطاؤه إشارة انطلاق الكفاح المسلح غاية في حد ذاتها, بل كان وسيلة لبلوغ غاية الاستقلال والحرية بعدما سد الاستعمار الغاشم السبل الأخرى لاسترجاع السيادة الوطنية.
وبالفعل فإن ثورة التحرير العظيمة كانت ثورة شعب واجه سياسة الإبادة والاحتواء بإرادته الصلبة وصبره وصموده أمام عمليات القمع والاعتقال وقاعات التعذيب والسجن وأساليب التجويع والقهر, واحتضن هذا الشعب أعظم ثورة في
التاريخ المعاصر تماما مثلما توقعه الشهيد العربي بن مهيدي في جملته الشهيرة: “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”, ويستذكر اليوم أبناء أولئك الأشاوس, ملاحم آبائهم بواجب العرفان والاقتداء, ويصونون أمانة الشهداء شعلة لا تنطفئ, تنفيذا لوصية الشهيد ديدوش مراد: “إذا نحن متنا, فدافعوا عن ذاكرتنا”.