الرئيس تبون ودبلوماسية استعادة الأدوار والريادة
شرع رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بصفة تدريجية في إعادة صياغة ورسم أولويات الدبلوماسية الجزائرية بعد سنين من الانكفاء والانحسار والغياب عن قضايا منطقة المغرب العربي المشتعلة ومنطقة الساحل والصحراء والساحتين العربية والإفريقية.
وبدا الرئيس تبون بأنه يتحرك بهدوء من أجل استعادة الدور التقليدي للدبلوماسية الجزائرية كقوة اقتراح في النزاعات الإقليمية و الدولية باعتبارها وسيطا تاريخيا ،نزيها وموثوقا به ويحظى باحترام ورضا دول الجوار العربي والإفريقي والهيئات والمنظمات الإقليمية. وكانت البداية بطلب وساطة الجزائر لحل أزمة سد النهضة بين مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة ثانية.
في نفس السياق ، بادرت الجزائر بتنظيم لقاء رفيع المستوى لدول جوار ليبيا في محاولة لاستعادة المبادرة السياسية في هذا الملف الذي صار حكرا على دول من خارج المنطقة المغاربية و شمال أفريقيا . وأبدت الجزائر استعدادها لمرافقة ودعم هذه الدولة الشقيقة في تجاوز الأزمة السياسية المستعصية و تحقيق المصالحة بين أبناء البلد الواحد، وصولا إلى تنظيم انتخابات رئاسية و تشريعية. وتحركت الجزائر أيضا في اتجاه دعم السلم والاستقرار في منطقة الساحل و الصحراء التي تعرف ازدهارا للجريمة المنظمة و تجارة المخدرات وصارت بحكم شساعة المساحة معقلا للجماعات الإرهابية وتجارة السلاح. وسعت الجزائر إلى الإعراب عن تضامنها مع كل من تشاد وموريتانيا والنيجر وخصوصا دولة مالي. و بذلت الجزائر جهودا كبيرة في الآونة الأخيرة لتقريب وجهات النظر بين أطراف الأزمة المالية و الاتفاق على أهمية تعزيز اتفاق السلام الذي رعته الجزائر والذي يحفظ الوحدة الترابية لمالي. وكانت هذه التحركات بمثابة رسالة واضحة من الرئيس عبد المجيد تبون لدول الجوار الإفريقي مفادها بأن أسس الدبلوماسية الجزائرية تقوم على التعاون والتقارب وتعزيز السلم و الأمن في كنف الاحترام المتبادل.
الرئيس تبون.. وأولى ملامح دبلوماسية المبادئ و الالتزام
سارع الرئيس عبد المجيد تبون للإعلان عن وفائه لنهج ومواقف الآباء الأولين في مجال السياسة الخارجية التي ولدت من رحم ثورة التحرير الكبرى. وتقوم هذه السياسة على ثبات المواقف حيال القضايا العادلة في العالم و منها دعم حق الشعوب التي ما تزال ترزح تحت نير الاستعمار و حقها في تقرير المصير مثلما هو الحال بالنسبة للشعبين الفلسطيني و الصحراوي.وضمن هذا السياق، يقول وزير الخارجية رمطان لعمامرة ” نمارس بمعية الرئيس تبون سياسة مبدأ وسياسة التزام “. وانطلاقا من هذا التصور، تشعر الجزائر اليوم مثل الأمس بدورها التاريخي الذي يقوم على مبدأ مناصرة الشعوب المظلومة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الشقيق حيث حرص وزير الخارجية على التأكيد بان “القضية الفلسطينية ليست سياسة رشيدة تتبعها الحكومة فحسب بل هي جزء لا يتجزأ من مكونات وعي الشعب الجزائري والتزامه الأصيل بحق الشعوب في التخلص من الاستعمار والاحتلال الأجنبي كما أثبت هذا الشعب عبر ثورته العظيمة ضد الاستعمار الفرنسي الذي دام 132 سنة”. الموقف نفسه اعتمدته الدبلوماسية الجزائرية منذ عقود خلت بخصوص القضية الصحراوية في ظل تصعيد عدواني غير مسبوق يقوم به نظام المخزن في الفترة الأخيرة، بهدف الالتفاف على مبدأ تقرير المصير بالقوة العسكرية والإستقواء بالخارج . وقد حرص الوزير لعمامرة على تأكيد الموقف الثابت لرئيس الجمهورية حيال هذا الملف بالقول “الجزائر لن تقبل أبدا النزعة التوسعية وإرهاب الدولة والاحتلال غير الشرعي لأراضي الغير (…) لاسيما في منطقتنا وفي جوارنا المباشر”. وقد وجب التذكير بهذه المواقف الثابتة للجزائر في وقت نشهد فيه وبكل أسف يقول الوزير لعمامرة “تدمير المغرب العربي مع أن مصير شعوبنا يملي ضرورة تعزيز هذا التوجه النفعي”.
الندية.. ودبلوماسية الردع السياسي و الاقتصادي
اتسمت علاقات نظام المخزن بالعدائية وافتعال الأزمات مع الجزائر منذ الاستقلال ،غير أن هذه العلاقة دخلت مرحلة من التأزم الشديد بعد التوقيع على “اتفاقيات إبراهيم” في ديسمبر 2020 بين المغرب وإسرائيل، إضافة إلى الولايات المتحدة وبعض دول الخليج العربي وهي الإمارات العربية المتحدة ،البحرين والسودان في مخالفة صريحة لاتفاقية السلام العربية المعتمدة في سنة 2020 بالعاصمة اللبنانية بيروت . وغداة انطلاق قطار التطبيع، بدأ المخزن يسعى للاستفادة من هذه التطورات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط ، وقام بجلب الكيان المصطنع إلى منطقة المغرب العربي لتعزيز موقفه التفاوضي بشان النزاع في الصحراء الغربية . وفجأة صار الكيان يرابط على حدود الجزائر، التي تحولت فجأة من دولة ممانعة إلى دولة مواجهة مع هذا الكيان الغاشم. وتصف الدبلوماسية الجزائرية ما يحدث بأنه مؤامرة كبرى تستهدف أمنها عبر الضغط عليها ودفعها للتسليم بوهم يسمى”مغربية الصحراء”.
وبالموازاة مع ذلك ، رفع نظام المخزن درجة التصعيد السياسي ضد الجزائر وصدرت تصريحات لسفيره لدى الأمم المتحدة تعدى فيها على سيادة الجزائر، بحديثه عن دعم ما وصفه بـ “استقلال منطقة القبائل”. وعندها تحركت الجزائر عبر القنوات الدبلوماسية المعتادة لطلب توضيحات من الرباط ، غير أن النظام المغربي التزم الصمت وهو ما يعكس جليا، بحسب تقدير مؤسسات الدولة الجزائرية، الغطاء السياسي لهذا الفعل. هذا وعرفت هذه الاستفزازات جرعة إضافية بمناسبة زيارة وزير خارجية الكيان الصهيوني للرباط بتاريخ الـ11 أوت الماضي وأطلق خلالها- وبإيعاز وتحريض من نظيره في نظام المخزن- تصريحات باطلة ، هاجم فيها ما وصفه ب “دور الجزائر في المنطقة” و”تقاربها الكبير مع إيران” ،وكذا المسعى الجزائري- بالتعاون مع عدد من الدول الإفريقية والعربية- لمنع ترسيم مشروع قرار يقضي بمنح الكيان الإسرائيلي “صفة مراقب” داخل الإتحاد الإفريقي.
وفي سياق ذي صلة بهذه المناورات المخزية ، كانت الأجهزة السيادية في الجزائر توثق وجود تعاون لنظام المخزن مع حركتين مصنفتين إرهابيتين ، ويتعلق الأمر بالحركة الانفصالية بمنطقة القبائل المعروفة اختصارا بـ ” الماك” وحركة ” رشاد” ذات التوجه الإسلاماوي المتطرف. إذ أفادت التقارير الأمنية الميدانية بان دولة المخزن تحولت بالفعل إلى قاعدة خلفية لأنصار الحركتين الإرهابيتين واللتين ثبت تورطهما في حرائق الغابات التي شهدتها الجزائر خلال الصائفة الماضية. وردا على هذه المواقف العدائية والمتزامنة مع حملات إعلامية مسعورة في المغرب ضد مؤسسات الدولة، سارعت الجزائر إلى اتخاذ إجراءات ردعية واستباقية دفاعا عن النفس وجاءت بصفة تدريجية لحماية أمنها القومي وشملت أولا:
ــ قطع العلاقات الدبلوماسية مع نظام المغرب بتاريخ الـ 24 أوت الماضي،
ــ الغلق الفوري للمجال الجوي أمام كل الطائرات المدنية والعسكرية المغربية وكذا تلك التي تحمل رقم تسجيل مغربي ،وذلك بقرار صادر عن المجلس الأعلى للأمن في الـ 22 سبتمبر الماضي،مما زاد في الأعباء المالية على شركة الخطوط الجوية المغربية ورحلاتها نحو الدول المطلة على ضفاف الحوض الشرقي للمتوسط وكذا دول الشرق الأوسط ،
ــ فض الشراكة الاقتصادية مع نظام المخزن في الـ31 أكتوبر الماضي بعد انتهاء صلاحية الاتفاقية الخاصة بتزويد السوق الاسبانية بالغاز عبر”أنبوب المغرب العربي ” والذي يمر عبر التراب المغربي. ومن المعلوم أن توقف تدفق الغاز الجزائري على السوق الداخلية المغربية سيجعلها تخسر- بحسب الخبراء –ما يقارب 50 % من استهلاكها الداخلي فضلا عن الرسوم التي تذر بحوالي 1مليون متر مكعب من الغاز كحقوق مرور أنبوب الغاز يوميا.
التحضير للقمة العربية بالجزائر وتعزيز التوافق العربي
لفترة طويلة، نأت الجزائر بنفسها عن الشأن العربي و سياسة المحاور بفعل تداعيات ما كان يعرف ب ” الربيع العربي ” وما نجم عنه من بروز تجاذبات وانقسامات حادة أثرت على العمل العربي المشترك خلال العشرية الأخيرة. وفي خضم هذه التحولات والمتغيرات الدولية ، ظلت الجامعة العربة تتفرج وعاجزة عن حل هذه الخلافات و تقريب وجهات النظر بين الدول الأعضاء بسبب تضارب وطغيان المصالح الضيقة للدول الأعضاء.
وقد عانت الجامعة العربية أيضا خلال هذه الفترة من كثرة التدخلات الخارجية في الشئون العربية وخصوصا من الولايات المتحدة الأميركية وحليفها الكيان الصهيوني وعديد القوى الدولية الصاعدة سواء كانت من دول الجوار العربي او من غيره. وكانت الجزائر أول من دعا لمراجعة أسس العمل العربي المشترك واعتبرت إصلاح مؤسسات الجامعة مدخلا أساسيا للتقويم وتفعيل التنسيق والتعاون بين الدول الأعضاء. غير أن هذه المبادرة اصطدمت بفيتو عدد من الدول المؤثرة و المهيمنة على إدارة شؤون الجامعة وبإيعاز -على ما يبدو- من الولايات المتحدة الأميركية والدول المنتفعة من الحالة الراهنة للوهن والتشرذم في الوطن العربي.
وقد أعلنت الجزائر بأنها على استعداد لتنظيم القمة العربية المقررة في شهر مارس القادم على أرض الشهداء، وقالت إنها تأمل في أن تساهم أعمال هذه القمة في إعطاء نفس جديد للعمل العربي المشترك على الرغم من تزامنها مع سياق دولي و إقليمي شديد التعقيد وبروز تحديات جديدة ومنها التطبيع المنفرد مع الكيان الصهيوني. وقد شدد الرئيس عبد المجيد تبون في تصريحاته الأخيرة على أهمية عودة سوريا لشغل مقعدها في الجامعة العربية بعد أكثر من عشرية من التجميد مؤكدا بأن الأولوية في هذه القمة هي للم الشمل وتنقية الأجواء والعمل على تحقيق المصالحة العربية و العودة للأسس التي قامت عليها الجامعة وأبرزها مناصرة القضية الفلسطينية والدفاع عن الأماكن المقدسة وتفعيل آليات العمل المشترك و تكريس مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء.
الجالية الجزائرية في الخارج في حاجة إلى التأطير والتكفل
الجالية الجزائرية بالخارج بلا تأطير منذ انهيار ودادية الجزائريين بأوروبا ومقرها باريس ، وذلك في أعقاب انفجار أحداث الخامس أكتوبر عام 1988، ونتج عنها كتابة دستور جديد يكرس، لأول مرة منذ الاستقلال ، التعددية السياسية في الجزائر وحرية إنشاء الأحزاب والجمعيات و إصدار الصحف. ولم تصمد هذه الهيئة أمام هذه التحولات السياسية والاجتماعية الحاصلة في الجزائر، وحينها تفرقت السبل بأبناء الودادية ، كل بحسب مشاربه و توجهاته. وقد سعت الحكومات المتعاقبة خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى إنشاء تنظيم جديد يكون بديلا للودادية الموروثة عن نظام الحزب الواحد يجمع أبناء الجالية الجزائرية في المهجر على كلمة واحدة و هي الولاء للوطن ويكون همزة وصل مع القيادة السياسة .
ولكن ونظرا لصعوبة هذه المهمة من الناحية العملية،اكتفت السلطات العمومية بتخصيص 08 مقاعد في البرلمان لتمثيل أفراد الجالية في كل من فرنسا والمغرب والمشرق العربيين و إفريقيا وأوقيانوسيا وأوروبا وأميركا. وبيننا من يتساءل اليوم إلى أي مدى نجح هؤلاء النواب في إيصال رأي الجالية ونقل انشغالاتها لصانع القرار في الجزائر و لكن المؤكد اليوم بأن الرئيس تبون جاد وأكثر عزما ممن سبقوه في هذا الموقع للعناية والتقرب من أفراد الجالية بالمهجر والتي فاق عددها الـ 6 ملايين نسمة. واليوم البلد يشهد تحديات غير مسبوقة على جميع الأصعدة والوطن يحتاج إلى جميع أبنائه لتحقيق الوثبة المنشودة سياسيا وتنمويا واجتماعيا .وقد حرص رئيس الجمهورية على دعوة السفراء والقناصلة إلى إيلاء اهتمام خاص لموضوع الجالية بـ” ابتكار الأساليب والمناهج لضمان ترجمة فعلية وعملية للأهمية الخاصة التي أوليها شخصيا لهذا الموضوع (الجالية الوطنية بالخارج)”.
وأضاف الرئيس تبون بأن المطلوب “ليس فقط الاهتمام بالانشغالات والاستجابة لاحتياجات جاليتنا، وإنما أيضا تعزيز روابطها مع الوطن و إشراك أفرادها في مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدنا، وكذا في الجهود الرامية لتعزيز مكانة ونفوذ الجزائر على الساحة الدولية”. وفي هذا السياق، قال رئيس الجمهورية : “جاليتنا المتواجدة في جميع أنحاء العالم, لها من الكفاءات والمهارات ما يمكنها من تقديم إضافة نوعية، لجهود التنمية في بلادنا، وهي مدفوعة برغبة قوية وإرادة كبيرة في سبيل ذلك، ولا تطلب إلا إشراكها في هذا الجهد الجماعي عبر ريادة الأعمال المبتكرة، وتبادل الخبرات والتدريب”. نأمل ذلك ولكن هذه السياسة الجديدة لصالح الجالية تحتاج إلى ترجمة ميدانية تعتمد على المرحلية و الواقعية .
الدبلوماسية الاقتصادية
صارت الدبلوماسية الاقتصادية مدعوة لتكون ركنا أساسيا في السياسة الخارجية للجزائر أسوة بعديد دول العالم التي تعتمد عليها لتعزيز النفوذ على الساحة الدولية. ولم يعد خافيا بان قوة الدول تقاس اليوم بقوة اقتصادياتها ولذلك حرص الرئيس تبون على توضيح هذه الرؤية خلال مؤتمر رؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية المنعقد بالعاصمة في الـ 8 أكتوبر الماضي. الرئيس شدد في خطابه على إيلائه اهتماما خاصا للدبلوماسية الاقتصادية قائلا “دبلوماسيينا مدعوون اليوم، للتموقع في طليعة الجهود الوطنية الهادفة إلى تعزيز جاذبية الجزائر تجاه الشركات الأجنبية، ودعم المؤسسات الوطنية لولوج الأسواق العالمية”. وتضمنت خارطة الطريق توجيهات لأفراد السلك الدبلوماسي بالعمل على تصريف المنتجات الجزائرية التي تمتلك فيها ميزة تنافسية في المجالين الفلاحي والصناعي مغاربيا وإفريقيا، وكذا جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة للجزائر.