مساجين مجازر 8 ماي 1945 … الوجه الآخر لهمجية الاستعمار
لا تزال قضية العديد من المساجين الذين ألقي القبضعليهم أثناء مجازر 8 ماي 1945 بسطيف، وبعدها وعاشوا ظلمات السجون والزنزاناتالرهيبة إلى غاية فجر الاستقلال تمثل الوجه الآخر البشع والمقيت للاستعمارالفرنسي في الجزائر.
بحسب عموم المؤرخين المختصين في تلك الأحداث والثورة التحريرية، فإنّ ملف مساجين 8 ماي 1945، وما بعدها ممن صدرت في حقهم أحكام بالإعدام والمؤبد فوجدوا أنفسهم في مواجهة أبشع أنواع التعذيب من أشغال شاقة واستنطاق جسدي وحشي استمرت إلى غاية الاستقلال يعد وجها آخر لهمجية استعمار لم يكن يتوقع بأن البركان الشعبي الذي أعقب مجازر 8 ماي 1945 سينفجر في الفاتح من نوفمبر 1954 .
وتشير وثائق تاريخية وشهادات حية محفوظة بمتحف المجاهد بسطيف لبعض ممن عايشوا تلك الأحداث إلى أن “مدينة سطيف حوصرت بعد أحداث مسيرة 8 ماي 1945 حصاراً مشدداً دام حوالي 3 أشهر عرف خلالها مواطنون عزل أبشع صور الانتقام والحقد والزجّ بالكثير منهم في المعتقلات والسجون للتعذيب والاستنطاق من طرف قوات الاحتلال الفرنسي”.
وتكشف شهادة موثقة لمسعود الخيّر السجين في الفترة من 13 ماي 1945 إلى غاية الاستقلال، عن معاناة أبناء منطقة سطيف في سجون فرنسا الاستعمارية ممن صدرت في حقهم أحكاما بالإعدام و أخرى بالمؤبد مع الأشغال الشاقة مباشرة بعد مجازر 8 ماي 1945.
وقال مسعود الخير في شهادته: “ألقي علي القبض وتمّ اقتيادي إلى ثكنة نابوليون بسطيف، حيث تعرضت للتعذيب والاستنطاق ثم تحويلي إلى سجن القصبة بقسنطينة قبل المثول أمام المحكمة العسكرية التي حكمت علي بالإعدام وعمري لم يكن يتعدّ آنذاك الـ 18 عاماً، حيث مزّق القاضي شهادة ميلادي وسجّل في الملف أنّ عمري 21 عاماً”.
وأضاف: “بعد المحاكمة نقلت إلى سجن الكدية بنفس المدينة (قسنطينة) في انتظار تنفيذ حكم الإعدام و بعد حوالي 20 شهراً ألغي حكم الإعدام وتعويضه بالسجن المؤبد وتحويلي إلى سجن الحراش (الجزائر العاصمة) ثم إلى سجن لامبيز بباتنة ثم مرة أخرى إلى سجن الحراش إلى غاية سنة 1962 “.
من جهته، يفيد الطاهر طوبال من بلدية بني عزيز (سطيف) في شهادة أخرى وهو سجين خلال الفترة من 8 ماي 1945 إلى غاية 15 ماي 1962: “ألقي علي القبض ووُضعت في معتقل بني عزيز وسلّطت عليّ كل أنواع التعذيب والاستنطاق ثم نُقلت الى ثكنة نابوليون بمدينة سطيف في شهر نوفمبر 1945 “.
وواصل: “نقلت بعدها إلى المحكمة العسكرية بقسنطينة التي أصدرت حكمها بالإعدام وزجّ بي في سجن الكدية الذي قضيت فيه 16 شهراً وتمّ تنفيذ حكم الإعدام ضدّ العديد من المساجين وبعد شهرين وصلتنا أخباراً تفيد بوقف تنفيذ حكم الإعدام وتخفيفه إلى السجن المؤبد”.
وبشأن هذه الفئة من المساجين الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية، أفاد البروفيسور سفيان لوصيف من قسم التاريخ والآثار بجامعة سطيف 2 لوكالة الأنباء الجزائرية: “المحكوم عليهم بالإعدام و المؤبد هم الفئة المنسية لمجازر 8 ماي 1945 الذين ألقي عليهم القبض بعد تلك المجازر منهم من قُتلوا رمياً بالرصاص بحي جنان الزيتون بمدينة قسنطينة، فيما تعرض آخرون لإبادة جماعية بعد أن أجبروا على حفر قبورهم بأنفسهم بمنطقة بوسكين (سطيف) ومنهم من حكم عليهم بالإعدام ثم تخفيفه إلى المؤبد إلى غاية إطلاق سراحهم سنة 1962”.
وأضاف: ”هؤلاء المساجين حكمت عليهم فرنسا بالسجن لمشاركتهم في الانتفاضة التي حدثت بعد مسيرة سطيف و انتقلت إلى مناطق أخرى على غرار عموشة التي تحصي قرابة 100 سجين و عين الكبيرة و بني عزيز وتيزي نبشار وأولاد عدوان وواد البارد وخراطة (بجاية) وغيرها”.
وذكر الجامعي ذاته: “من بين هؤلاء المساجين العياشي خرباش وبوزيد ويز وسليمان ميهابيل وشقيقه السعيد وبوزيد مرغم وامبارك مرغم والشريف بوعود وشقيقه الصالح ومحمد قرفي والمداني عمرون”، وعبد القادر لوصيف ومحمد الطاهر طوبال وأحمد حريدي وبوجمعة قريصة والقائمة طويلة”.
واستحدث الاستعمار الفرنسي خلال تلك الأحداث سجونا خاصة لجمع معتقلي8 ماي 1945 كسجن الثكنة العسكرية بسطيف ومحتشد “ذراع بن خرباش” قبل الشروع في محاكمتهم وإصدار ضدهم أحكاما جماعية ثم نقلهم لأكبر السجون وأرعبها على الإطلاق على غرار سجن الكدية بقسنطينة ولامبيز بباتنة ولاميزو كاري بالحراش (الجزائر العاصمة) وسجن البرواقية (المدية).
وانتهى المطاف بالعديد من هؤلاء المساجين بالموت في صور مِؤلمة بسبب الظروف الصحية والأوبئة والأمراض، فيما أصيب العديد منهم بالجنون على غرار بوعود بوزيد (بلدية أولاد عدوان)، حسب ما لفت إليه البروفيسور لوصيف.
مجازر 8 ماي 1945 أحدثت القطيعة مع المحتل
أكّد البروفيسور سفيان لوصيف أن أحداث ماي 1945 وما أعقبها من مذابح وتعذيب وتنكيل وسجن للأبرياء “كانت تمثل الحد الفاصل بين المقاومة السياسية السلمية والمقاومة العسكرية المسلحة كما كانت البداية الحقيقية للاستراتيجية الجديدة في الحركة الوطنية الجزائرية”.
وأردف المؤرخ ذاته: “إنّ الشعب الجزائري عموماً والمناضلين في الحركة الوطنية على وجه الخصوص آمنوا يقيناً بعد تلك الأحداث بأنّ ما أخذ بالقوة لن يسترجع إلاّ بالقوة”، مضيفاً أنّ “العديد من المناضلين آنذاك على غرار كريم بلقاسم ومصطفى بن بولعيد وحسين آيت أحمد قد انخرطوا مباشرة بعد تلك الأحداث في العمل المسلح”.
من جهته، اعتبر المجاهد خالد حفاظ الذي لم يتمكن إلى اليوم من نسيان صورة اعتقال والده من طرف العساكر الفرنسيين خلال أحداث 8 ماي 1945 في منطقة ”البحيرة” بعين أرنات (غرب سطيف) و اقتياده إلى وجهة مجهولة أنّ “تاريخ 8 ماي 1945 يعد تمهيدا مباشرا للثورة التحريرية الكبرى”.
و دعا خالد حفاظ وهو يستذكر في كل مرة تلك المشاهد التي تحولت فيها سطيف إلى بركة من الدماء بالرغم من أن عمره لم يكن يتجاوز آنذاك 6 سنوات إلى “ترسيخ مجازر 8 ماي 1945 في ذاكرة الأجيال الصاعدة لصون الذاكرة الجماعية”.