الرقمنة ضرورة حتمية لامفر منها في الجزائر
بقلم الأستاذ الجامعي المتقاعد عبد الوهاب زعنون
مدير سابق للمركز الجامعي نور البشير – ولاية البيض-
من خلال تقديم حصيلة الرقمنة في بيان السياسة العامة للحكومة، يتضح بأن هذا النمط الجديد لتعامل الإدارة مع المواطن لم يرقى إلى المستوى المنشود في بعض القطاعات بالرغم من أن الهدف الأساسي من استغلال التحول الرقمي في الجزائر هو ضمان خدمات نوعية لصالح المواطنين تمكنه من الابتعاد عن التصرفات السلبية كالبيروقراطية.
للتذكير، انخرطت الجزائر في مشروع الحكومة الإلكترونية من خلال حضور القمة العالمية لمجتمع المعلومات في مرحلته الأولى التي انعقدت في شهر ديسمبر 2003 بجنيف (سويسرا) والتي كان من بين أهدفها صياغة إرادة سياسية واضحة المعالم واتخاذ تدابير ملموسة لإرساء أسس مجتمع معلومات يكون في متناول الجميع. وكانت الغاية من القمة الثانية المنعقدة بتونس العاصمة في شهر نوفمبر 2005، تنفيذ خطة عمل جنيف والتوصل إلى حلول و اتفاقيات حول إدارة الإنترنت بالإضافة إلى آليات التمويل.
تشمل خطوط العمل لمجتمع المعلومات، تطبيق تكنولوجيات الإعلام والاتصال في مجال الإدارة، التجارة، التعليم عن بعد، الرعاية الصحية، التوظيف، البيئة، الزراعة. ويتضح من خلال القمتين بأن الحكومة الإلكترونية أصبحت أمراً لا مفر منه بالنسبة لكل الدول (متقدمة أو نامية). وحضور الجزائر في هذا الإطار يدل على أنها من بين الدول الساعیة لتطبیق هذا النظام الجديد و الدليل على ذلك برنامج الجزائر الإلكترونیة 2009-2013 والذي يعتبر من أهم المشاریع التنمویة التي كانت تراهن علیها الحكومة الجزائریة.
لكن و بالرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على طرح مشروع “الجزائر الإلكترونية 2013″، لا يزال مجال الرقمنة يسير بوتيرة بطيئة في بعض الهياكل الإدارية.
لكن في سنة 2022 عرفت عملية التحول الرقمي في الجزائر تسارعا كبيرا بفضل إطلاق منصة المستثمر في شهر أكتوبر و البوابة الحكومية للخدمات العمومية في شهر ديسمبر ودلك تجسيدا للالتزام رقم 25 من بين 54 التزام لرئيس الجمهورية والمتعلق بتحقيق تحول رقمي لتحسين الاتصال.
في البداية، احتوت البوابة الحكومية للخدمات العمومية على 338 خدمة معتمدة من بين 450 خدمة رقمية تم إحصاؤها. نستطيع من خلالها الحصول على معلومات مفصلة عن كافة الإجراءات والخدمات العمومية من خلال عدة روابط، نذكر على سبيل المثال: التجارة-المالية، الضمان الاجتماعي، التربية و التعليم، الخ.
بالنسبة لمجال التربية الوطنية و التعليم العالي و التكوين المهني. تشمل البوابة حاليا 352 منصة رقمية متعلقة بمختلف الوزارات لتسهيل الحصول على الوثائق الإدارية. بالرغم من دلك لم يتم القضاء على النقائص التي تعيق إستراتيجية السلطات العليا و المنصوص عليها في الالتزام 25.
لهذا وجب اتخاذ إجراءات واضحة وصارمة للقضاء على مسببات العرقلة و التي تتطلب أولا القيام بمعاينة الوضع من طرف خبراء لسن إستراتيجية جديدة تساهم في تبسيط الاستعمال من أجل الاستفادة الشاملة من التكنولوجيات الحديثة مع تسطير برنامج تطبيقي واضح و إلزامية التنفيذ من خلال جدول زمني تتفق عليه كل الأطراف الفاعلة. كما يمكن الاعتماد على النموذج الناجح الذي اعتمدت عليه وزارة التعليم العالي والبحت العلمي في الميدان.
بالنسبة لوزارة التعليم العالي و البحث العلمي والتي تعتبر من بين الوزارات الرائدة في المجال فقد مر برنامج الرقمنة بعدة مراحل، نذكر منها: انعقاد أول ندوة وطنية خاصة التعليم عن بعد في سنة 2012 ، اعتماد منصة بروغرس (progres) في سنة 2016 لتسهيل عملية التسجيل على مستوى المؤسسات الجامعية ودلك نظرا للعدد المتزايد للطلبة.
بناء على توصيات الندوة الوطنية الخاصة بالتعليم عن بعد تم تقديم حوصلة فيما يخص الدروس التي تم وضعها على الانترنت والمنتجات التي تمت على المستوى الإقليمي مع سرد المشاكل الرئيسية التي واجهتها العملية، و خلال السنة الدراسية 2019/2020 فرض التعامل مع وباء فيروس كورونا تعميم التعليم عن بعد عبر الإنترنت من خلال استراتيجيات إدارة الأزمات والتي ساهمت في انقاد الموسم الدراسي. بالرغم من فجائية الوضعية كان لتوصيات الندوة الوطنية وكذلك تأهيل الأساتذة الذين تم تعيينهم منذ عام 2016 وتدريبهم على التعليم عن بعد ومشاركتهم في تدريب أساتذة لم يستفيدوا من هذا التدريب، دور كبير في تجاوز الأزمة.
انطلاقا من شهر سبتمبر 2022 عرف استعمال الرقمنة على مستوى قطاع التعليم العالي قفزة نوعية بشهادة كل المستعملين و ذلك مباشرة بعد تولى الأستاذ كمال بداري مهامه كوزير للتعليم العالي والبحث العلمي خلفا للأستاذ عبد الباقي بن زيان. قام السيد الوزير بإدخال أسلوب جديدة للوصول إلى رقمنة شاملة للقطاع معتمدا على إستراتيجية احترام أجال التنفيذ و المتابعة الميدانية لكل المراحل المسطرة.
فمن خلال برنامج خاص وواضح يشمل كل الميادين تم الإعلان في 24 أكتوبر 2022 عن الرؤية الرقمية لقطاع التعليم العالي والبحث العلمي في مذكرة ”المخطط الرئيسي للرقمنة” (7) ”Le Schéma Directeur du Numérique (SDN)”. انطلق البرنامج فعليا يوم 20 نوفمبر 2022 ودلك بعد تعيين الهيئات والموارد البشرية على كل المستويات (المحلي، الجهوي و الوطني) للتكفل بالمخطط والدي يحتوي على اثنا عشر رهانا موزعة على سبعة محاور تشمل كل الجوانب: مرافقة تكوين الأساتذة، خدمة عروض التكوين، دعم نجاح الطلبة، خدمة نشاطات البحث، دعم الهياكل القاعدية، الوصول إلى إدارة عصرية و مجال التبادل الجامعي الوطني والدولي. تنفيذ المحاور السبعة تم وفق ستة عشر برنامجا استراتيجيا، وزعت بالتساوي على كل محور ماعدا المحورين 6 و 7 ألدان يشملان ثلاثة برامج إستراتيجية لكل واحد وذلك من خلال برامج إستراتيجية موزعة على 102 مشروع عملياتي كما هو مدون في الملحق 4 من المخطط التوجيهي للرقمنة و دليل الاستعمال (7). من خلال هذا المشروع تم إنشاء أكتر من 40 منصة لتسهيل الحياة الجامعية على كل المستويات ووضع خدمات تكنولوجية لفائدة الأسرة الجامعية ودلك لتحسين الحوكمة. نجد كذلك من بين الأهداف الرئيسية: تحقيق جودة التكوين وإخضاعه للمرئية، بالإضافة إلى الوصول لإدارة حديثة يسودها مبدأ صفر ورقة.
بالفعل تم إطلاق المنصات، كما صرح مستشار وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور عبد الكريم تفركنيت يوم 03 سبتمبر 2023 في جريدة يومية وهران (Le quotidien d’Oran) (8) بأن “برنامج الرقمنة الذي وضعته الوزارة تم تنفيذه بتوجيهات وإشراف الجهات العليا في الدولة من خلال إنشاء 46 منصة رقمية، منها 42 منصة في المجال التعليمي و4 في مجال الخدمات” .
بداية من سنة 2023 تم إطلاق المنصات كالمنصة الالكترونية الخاصة بتدريس اللغة الانجليزية عن بعد لفائدة الأساتذة. كما أكد الوزير مرارا، تتمحور كل المنصات حول كيفية مساعدة الطالب على النجاح في مختلف مراحل مساره التكويني، من التوجيه إلى التخرج، والانخراط في الحياة المهنية، بالإضافة إلى الابتكار البيداغوجي، وعصرنة الحوكمة بمختلف جوانبها. في المجال ألخدماتي تم إطلاق يوم الخميس 12 أكتوبر 2023 منصة (منحتي) و الخاصة بالطلبة.
من مسببات النجاح الباهر لقطاع التعليم العالي في مجال الرقمنة و التي وصلت إلى مستوى مرموق في أقل من سنة هو انتهاج إستراتيجية عملية مبنية على الوضوح في اتحاد القرارات والمتابعة الميدانية للتنفيذ. تجربة وجب الاقتداء بها في الميادين التي تعرف تأخر في الاستعمال الأمثل للرقمنة.
يجب علينا الإسراع في تعميم استعمال الرقمنة في الجزائر حتى نتمكن من مواكبة التعامل الرقمي في عالم يتطور بسرعة كبيرة خاصة منذ سنة 2011 بفضل الاستعمال الواسع للأنظمة التكنولوجية والمعلوماتية والانتشار الشاسع للإنترنت من خلال نتائج الثورة الصناعية الحالية (الرابعة) والتي أدت إلى التقدم في مجالات عديدة كالطباعة الثلاثية الأبعاد، انتشار العملات الرقمية، الذكاء الصناعي و التحكم عن بعد في الطائرات و نظام (GPS) الذي يستعمل عدة تقنيات حديثة في مجال الملاحة مثل الأقمار الصناعية لاستخدام خرائط جغرافية لمناطق المختلفة بجانب وجود خادم صوتي يساعد في إرشاد الأشخاص إلى الوجهات والأماكن التي يرغبون في الوصول إليها.
من ابرز النتائج الناجمة عن استخدام هدا التطور التكنولوجي، تسريع التحول الرقمي لاسيما في الإدارات والخدمات العامة والقطاع الاقتصادي حيت أدى إلى تقليص الممارسات السلبية كالبيروقراطية والرشوة التي كانت منتشرة بشكل كبير في المعاملات الكلاسيكية. كيفية التعامل مع الإدارة على المستوى العالمي يتطلب في الوقت الحالي إلزامية استعمال الرقمنة وبالتالي لا يمكن الهروب من هذا الواقع المفروض والدي لا مفر منه.